الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)
وَالْوَنَى فِي اللُّغَةِ: الضَّعْفُ، وَالْفُتُورُ، وَالْكَلَالُ، وَالْإِعْيَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي مُعَلَّقَتِهِ: وَقَوْلُ الْعَجَّاجِ: فَقَوْلُهُ: وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي أَيْ لَا تَضْعُفَا، وَلَا تَفْتُرَا فِي ذِكْرِي. وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى مَنْ يَذْكُرُهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [3 191]، وَأَمَرَ بِذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ فِي قَوْلِهِ: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [8 45]كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ: وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتُرَانِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي حَالِ مُوَاجِهَةِ فِرْعَوْنَ. لِيَكُونَ ذِكْرُ اللَّهِ عَوْنًا لَهُمَا عَلَيْهِ، وَقُوَّةً لَهُمَا وَسُلْطَانًا كَاسِرًا لَهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُنَاجِزٌ قِرْنَهُ» اه مِنْهُ.وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي لَا تَزَالَا فِي ذِكْرِي. وَاسْتُشْهِدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ طَرَفَةَ: أَيْ لَا تَزَالُ تَغْلِي. وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ لَعَلَّ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ، إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [129] فَهِيَ بِمَعْنَى كَأَنَّكُمْ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّ لَعَلَّ تَأْتِي فِي الْعَرَبِيَّةِ لِلتَّعْلِيلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: فَقَوْلُهُ: لَعَلَّنَا نَكُفُّ أَيْ لِأَجْلِ أَنْ نَكُفَّ.وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى مَعْنَاهُ عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا، فَالتَّرَجِّي، وَالتَّوَقُّعُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِلَعَلَّ رَاجِعٌ إِلَى جِهَةِ الْبَشَرِ. وَعَزَا الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْقَوْلَ لِكُبَرَاءِ النَّحْوِيِّينَ كَسِيبَوَيْهِ، وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ إِطْلَاقِ الرَّسُولِ مُرَادًا بِهِ الْمَصْدَرُ عَلَى الْأَصْلِ قَوْلُهُ: أَيْ بِرِسَالَةٍ.وَقَوْلُ الْآخَرِ: يَعْنِي أَبْلِغْهُمْ رِسَالَةً.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ يُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْآيَةِ الصَّادِقُ بِالْعَصَا، وَالْيَدِ، وَغَيْرِهِمَا. لِدَلَالَةِ آيَاتٍ أُخَرَ عَلَى ذَلِكَ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى يَدْخُلُ فِيهِ السَّلَامُ عَلَى فِرْعَوْنَ إِنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعِ الْهُدَى لَا سَلَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ. وَلِذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ» إِلَى آخَرِ كِتَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}.مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ. أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِمَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أُشِيرَ إِلَى نَحْوِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. كَقَوْلِهِ: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [79 37- 39]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [92 14- 16]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [75 31- 35] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
يَعْنِي بِالْخِلْقَةِ: الصُّورَةَ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ، وَعَطِيَّةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ثُمَّ هَدَى كُلَّ صِنْفٍ إِلَى رِزْقِهِ وَإِلَى زَوْجِهِ.وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ: أَيِ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ وَشَكْلَهُ الَّذِي يُطَابِقُ الْمَنْفَعَةَ الْمَنُوطَةَ بِهِ، كَمَا أَعْطَى الْعَيْنَ الْهَيْئَةَ الَّتِي تُطَابِقُ الْإِبْصَارَ، وَالْأُذُنَ الشَّكْلَ الَّذِي يُوَافِقُ الِاسْتِمَاعَ. وَكَذَلِكَ الْأَنْفُ، وَالرِّجْلُ، وَاللِّسَانُ، وَغَيْرُهَا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُطَابِقٌ لِمَا عُلِّقَ بِهِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ غَيْرَ نَابٍ عَنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَعَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى كُلَّ شَيْءٍ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِ: {أَعْطَى}، وَ: {خَلْقَهُ} هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي.وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ: {خَلْقَهُ} هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَ: {كُلَّ شَيْءٍ} هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْطَى الْخَلَائِقَ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ هَدَاهُمْ إِلَى طَرِيقِ اسْتِعْمَالِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَفْعُولَ مِنْ مَفْعُولَيْ بَابِ كَسَا وَمِنْهُ: {أَعْطَى} فِي الْآيَةِ لَا مَانِعَ مِنْ تَأْخِيرِهِ وَتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ الْأَخِيرِ إِنْ أَمِنَ اللَّبْسُ، وَلَمْ يَحْصُلْ مَا يُوجِبُ الْجَرْيَ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَأَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ-: وَلَا مَانِعَ مِنْ شُمُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ. لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَى الْخَلَائِقَ كُلَّ شَيْءٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ هَدَاهُمْ إِلَى طَرِيقِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَعْطَى كُلَّ صِنْفٍ شَكْلَهُ وَصُورَتَهُ الْمُنَاسِبَةُ لَهُ، وَأَعْطَى كُلَّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى الشَّكْلَ الْمُنَاسِبَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي الْمُنَاكَحَةِ، وَالْأُلْفَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ. وَأَعْطَى كُلَّ عُضْوٍ شَكْلَهُ الْمُلَائِمَ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَنُوطَةِ بِهِ فَسُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا! مَا أَعْظَمَ شَأْنِهِ وَأَكْمَلَ قُدْرَتِهِ!!وَفِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَرَاهِينُ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [28 88].وَقَدْ حَرَّرَ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَةَ فِي رِسَالَتِهِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنِ اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي مَعَانِي الْآيَاتِ لَيْسَ اخْتِلَافًا حَقِيقِيًّا مُتَضَادًا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَكِنَّهُ اخْتِلَافٌ تَنَوُّعِيٍّ لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالْآيَاتُ تَشْمَلُ جَمِيعَهُ، فَيَنْبَغِي حَمْلُهَا عَلَى شُمُولِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَوْضَحَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْجَارِي عَلَى أُصُولِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعَزَاهُ لِجَمَاعَةٍ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
هَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِ مُوسَى لَا يَضِلُّ رَبِّي لِأَنَّ قَوْلَهُ فَأَخْرَجْنَا يُعَيِّنُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ. وَمَعَ كَوْنِهَا مِنْ آيَاتٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَهِيَ مِنَ النِّعَمِ الْعُظْمَى عَلَى بَنِي آدَمَ.الْأُولَى: فَرْشُهُ الْأَرْضَ عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْعَجِيبِ.الثَّانِيَةُ: جَعْلُهُ فِيهَا سُبُلًا يَمُرُّ مَعَهَا بَنُو آدَمَ وَيَتَوَصَّلُونَ بِهَا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ.الثَّالِثَةُ: إِنْزَالُهُ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْعَجِيبِ.الرَّابِعَةُ: إِخْرَاجُهُ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ.أَمَّا الْأُولَى الَّتِي هِيَ جَعْلُهُ الْأَرْضَ مَهْدًا فَقَدْ ذَكَرَ الِامْتِنَانَ بِهَا مَعَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} الْآيَةَ [43 9- 10]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [78 6- 7]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [51 48]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا} [13 3]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.وَأَمَّا الثَّانِيَةُ الَّتِي هِيَ جَعْلُهُ فِيهَا سُبُلًا فَقَدْ جَاءَ الِامْتِنَانُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. كَقَوْلِهِ فِي الزُّخْرُفِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [43 9]،وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [21 31] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [16 15].وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، وَالرَّابِعَةُ وَهُمَا إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِخْرَاجُ النَّبَاتِ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُمَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ، وَالِاسْتِدْلَالِ مَعًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ} الْآيَةَ [16 10]. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ بِصِيغَةِ التَّعْظِيمِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} [6 99]، وَقَوْلُهُ فِي فَاطِرٍ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} [35 27]، وَقَوْلُهُ فِي النَّمْلِ: {أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [27 60].وَهَذَا الِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ بِصِيغَةِ التَّعْظِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا فِي إِنْبَاتِ النَّبَاتِ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ شَأْنِ إِنْبَاتِ النَّبَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِلِ الْمَاءُ وَلَمْ يَنْبُتْ شَيْءٌ لَهَلَكَ النَّاسُ جُوعًا وَعَطَشًا. فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَشِدَّةِ احْتِيَاجِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَلُزُومِ طَاعَتِهِمْ لَهُ جَلَّ وَعَلَا.وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى أَيْ أَصْنَافًا مُخْتَلِفَةً مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ. فَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ، وَهُوَ هُنَا الصِّنْفُ مِنَ النَّبَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [22 5] أَيْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [31 10] أَيْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ حَسَنٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يس:{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [36 36] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَقَوْلُهُ شَتَّى نَعْتٌ لِقَوْلِهِ: {أَزْوَاجًا} [20 53]. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى أَيْ أَصْنَافًا مُخْتَلِفَةَ الْأَشْكَالِ، وَالْمَقَادِيرِ، وَالْمَنَافِعِ، وَالْأَلْوَانِ، وَالرَّوَائِحِ، وَالطُّعُومِ. وَقِيلَ شَتَّى جَمْعٌ لِنَبَاتٍ أَيْ نَبَاتٌ مُخْتَلِفٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ شَتَّى جَمْعُ شَتِيتٍ. كَمَرِيضٍ وَمَرْضَى. وَالشَّتِيتُ: الْمُتَفَرِّقُ. وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ يَصِفُ إِبِلًا جَاءَتْ مُجْتَمِعَةً ثُمَّ تَفَرَّقَتْ، وَهِيَ تُثِيرُ غُبَارًا مُرْتَفِعًا: وَثَغْرٌ شَتِيتٌ: أَيْ مُتَفَلِّجٌ لِأَنَّهُ مُتَفَرِّقُ الْأَسْنَانِ. أَيْ لَيْسَ بَعْضُهَا لَاصِقًا بِبَعْضٍ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَعْنَى السَّلْكُ: الْإِدْخَالُ. وَقَوْلُهُ سَلَكَ هُنَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَ فِي دَاخِلِ الْأَرْضِ بَيْنَ أَوْدِيَتِهَا وَجِبَالِهَا سُبُلًا فِجَاجًا يَمُرُّ الْخَلْقُ مَعَهَا. وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [20 53] وَعَبَّرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْجَعْلِ، كَقَوْلِهِ فِي الْأَنْبِيَاءِ: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [21 31] وَقَوْلُهُ فِي الزُّخْرُفِ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [43 10] وَعَبَّرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَنْ ذَلِكَ بِالْإِلْقَاءِ كَقَوْلِهِ فِي النَّحْلِ: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [31 15] لِأَنَّ عَطْفَ السُّبُلِ عَلَى الرَّوَاسِي ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ أَيْ كُلُوا أَيُّهَا النَّاسُ مِنَ الثِّمَارِ، وَالْحُبُوبِ الَّتِي أَخْرَجْنَاهَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلْنَا مِنْ جَمِيعِ مَا هُوَ غِذَاءٌ لَكُمْ مِنَ الْحُبُوبِ، وَالْفَوَاكِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ. أَيْ أَسِيمُوهَا وَسَرِّحُوهَا فِي الْمَرْعَى الَّذِي يَصْلُحُ لِأَكْلِهَا. تَقُولُ: رَعَتَ الْمَاشِيَةُ الْكَلَأَ، وَرَعَاهَا صَاحِبُهَا: أَيْ أَسَامَهَا وَسَرَّحَهَا. يَلْزَمُ وَيَتَعَدَّى. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ كُلُوا وَارْعَوْا لِلْإِبَاحَةِ. وَلَا يَخْفَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الِامْتِنَانِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمُنْعِمِ بِذَلِكَ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ.وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى بَنِي آدَمَ بِأَرْزَاقِهِمْ وَأَرْزَاقِ أَنْعَامِهِمْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [32 27]، وَقَوْلِهِ فِي النَّازِعَاتِ: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [79 31- 33]]،وَقَوْلِهِ فِي عَبَسَ: {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [80 25- 32] وَقَوْلِهِ فِي النَّحْلِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [31 10]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِأُولِي النُّهَى أَيْ لِأَصْحَابِ الْعُقُولِ. فَالنُّهَى: جَمَعُ نُهْيَةٍ بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ الْعَقْلُ. لِأَنَّهُ يَنْهَى صَاحِبَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: نَهُوَ الرَّجُلُ بِصِيغَةِ فَعُلَ بِالضَّمِّ: إِذَا كَمُلَتْ نُهْيَتُهُ أَيْ عَقْلُهُ. وَأَصْلُهُ نَهُيَ بِالْيَاءِ فَأُبْدِلَتِ الْيَاءُ وَاوًا لِأَنَّهَا لَامُ فِعْلٍ بَعْدَ ضَمٍّ. كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
|